غيــلان الدمشقي .. والجعد بن درهم .. الفكر في مواجهة السيف.. والتاريخ المزور
لم التاريخ وإشكالية البحث الفلسفي العربي الإسلامي
حينما يتوجه الباحث العربي والإسلامي لدراسة الفلسفة العربية والإسلامية يجد نفسه مضطرا للتعامل مع الفلسفة بطريقة المؤرخ، وبطريقة الباحث المستعرض وليس الناقد، لاسيما حينما تكون فترة البحث هي فترة الخلفاء الراشدين وفترة الخلافة الأموية والعباسية الأولى، أو كما يسميها بعض الباحثين (ما قبل فترة التدوين)، وقبل الإنتاج الفلسفي العربي الإسلامي. أي أن الباحث في الفلسفة يجد نفسه يعتمد على (علم التاريخ). لكن حتى هذا البحث التاريخي لا يمكن أن يكون دون بعض المسلمات والأسئلة الفلسفية التي تكون مركزا للدائرة التاريخية. ويتعقد هذا البحث التاريخي كلما توغلنا في البدايات، فترة الخلافة الأموية، وفترة ما قبل التدوين، الذي هو بالأساس تدوين تاريخي، أي توثيق الروايات الشفوية السابقة والمتناقلة عبر العصور، لنجد أنفسنا ليس أمام تاريخ واقعي يعكس حراك الفكر، وإنما أمام (تاريخ أسطوري). فالنص الوحيد المؤسس والموثق تاريخيا وبشكل واقعي هو النص القرآني، بينما جميع ما وصل إلينا بعد ذلك يكاد يكون لا تاريخي. وقد توقف (محمد أركون) طويلا أمام إشكالية الوعي التاريخي وإشكالية الوعي الأسطوري اللا تاريخي عند نقده للعقل الإسلامي .
ورغم أنه هناك شبه اتفاق بين المؤرخين استنادا لمصدر تراثي، وبالتحديد (الحافظ الذهبي) في كتابه (تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام)، بان التدوين بدأ في الفترة المحددة 143 هجرية، رغم أن التسليم بهذا التاريخ يثير الشكوك من حيث أن التدوين لا ينفي التأليف وإنما يعني الانتقال من المعارف المنقولة إلى المعارف المسجلة.
والغريب أن هناك مصادر تراثية أخرى تؤكد خلاف ذلك، ففي كتابه (الفهرست) يؤكد (ابن النديم) أن (عبيد بن شربة الجرهمي) دون أيام معاوية كتابين هما : “الأمثال” و”الملوك وأخبار الماضين”. كما (ابن سعد) في كتابه (الطبقات الكبرى) يروى أن هشاماً بن عروة بن الزبير قال بأن أباه أحرق يوم الحرة كتب فقه كانت له. لكن المشكلة ليست في التدوين والتأليف وإنما مضمون هذه الكتب والتناقضات التي تملؤها، والمبالغات والسرد التخيلي، فبعضهم يروي حكايات عن معارك وكأنه يحمل كاميرا سينمائية ليصف سرج الحصان وأشكال الدروع وما منقوش عليها، وأشكال التعذيب والاغتيالات التي تجري في أعماق الزنازين وكأنه شاهد عليها. وهذا ما واجهني وأنا أتوجه للكتابة عن (غيلان الدمشقي). فحينما أردت الكتابة عنه حاولت أن أجمع كل المصادر التي تتحدث عنه، فوجدت أنها قليلة جداً، وهي تتناقل نفس الأخبار بتحوير هنا وإضافة هناك، غير ما أثارني حقا أن بعض الباحثين الجادين الذين نكن لهم التقدير ونأخذ بآرائهم باسترخاء وبنوع من اليقين والثقة بمصادرهم دونما تشكيك أو ظنون والذين كانوا يعززون ويدعمون رواياتهم أو أخبارهم أو تحليلاتهم بأسماء كتب تراثية معروفة، وبدافع الفضول الأكاديمي ولتوفر تلك المصادر في مكتبتي كنتُ أعود إليها ففوجئتُ بعدم وجود تلك الروايات في تلك المصادر التراثية، بل ووجدت تضارباً في الأخبار، حتى صار الشك يدب في ذهني وأنا أتجول بين المصادر التراثية والمعاصرة.ولا أخفيكم لم أعد أثق إلا بمن يستشهد بالنص المعتمد، وهذا الأمر قد يثقل البحث ويبدو أن الكاتب لا يجهد نفسه، لكني شخصيا وجدتُ أنها الطريقة الوحيدة التي تجعلك تتأكد من مصادرك، لأني وجدتُ أيضا هناك من يقتبس من كتب الآخرين ومن المصادر أيضا دون أن يشير إلى ذلك، والغريب أن إذا أخطأ الأول فأنه سيجر خلفه عددا من الذين يقتبسون منه ويكررون خطأه، رغم أني عشت هذه التجربة في اللغات الأخرى أيضا حينما كنتُ أدرس في معهد السينما بموسكو حيث كنت أعود لمصدر قديم وإذا ما كان هناك خطأ طباعي فقد كنت أجده يتكرر عند اللاحقين الذين يقتبسون منه، دون أن يشيروا إليه. عموما، لنعد إلى (غيلان الدمشقي).
الأشعري يستذكر غيلان الدمشقي
يُعد كتاب (مقالات الإسلاميين – تحقيق وشرح د. نواف الجراح – منشورات دار صادر -ط 2 – بيروت – 2006) لمؤسس المذهب الأشعري (أبي الحسن الأشعري) من أمهات المصادر العربية الإسلامية لمعرفة الحركة الفكرية في العصرين الأموي والعباسي، من حيث أن الرجل ولد على ما جاء في معظم المصادر في العام 260 هجرية وتوفي في العام 320 هجرية. وفي هذا الكتاب يرد ذكر (غيلان الدمشقي) خمس مرات، وفي جميعها يستشهد برأيه أو ليؤكده، وقد جاء في التعليق والتعريف به من قبل المحقق في موضعين مختلفين، ففي المرة الأولي يتم تعريفه في الهامش: ( غيلان هو غيلان بن يونس ويقال ابن مسلم أبو مروان مولى عثمان بن عفان (انظر: الطبري) استتابه عمر بن عبد العزيز وعده ابن المرتضى من رجال الطبقة الرابعة من المعتزلة (انظر طبقات المعتزلة) وفي موضع آخر من الكتاب يعرفه المحقق : ( غيلان بن مسلم القبطي أخذ مذهب القدر عن معبد استتابه عمر بن عبد العزيز ثم قتله هشام (انظر: ابن المرتضى: طبقات). بينما (الشعري) نفسه يعده من المرجئة، ويصنفه في الفرقة السابعة حيث يكتب: ( الفرقة السابعة من المرجئة “الغيلانية” أصحاب ” غيلان” يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله الثانية والمحبة والخضوع والإقرار بما جاء به الرسول وبما جاء به من عند الله سبحانه وذلك أن المعرفة الأولى عنده اضطرار فلذلك لم يجعلها من الإيمان). وفي موضع آخر: ( وذكر “زرقان” عن “غيلان” أن الإيمان هو الإقرار باللسان وهو التصديق وان المعرفة بالله فعلُ الله وليست من الإيمان في قليل ولا كثير واعتلّ بأن الإيمان في اللغة هو التصديق). وهذا تصنيف يبعده عن (القدريين). وعل هذا التصنيف الذي اعتمده (الأشعري) اعتمد (د. محمد عمارة) في كتابه (تيارات الفكر الإسلامي – دار الشروق – ط2- القاهرة – 2007) حينما يتحدث عن (المرجئة) فيكتب: ( لقد جاء هذا الاسم، الذي عرفت به أحزاب وفرق وجماعات إسلامية عدة، جاء اشتقاقا ونسبة إلى مصطلح: “الإرجاء“.. وهذا المصطلح قد عني، في الفكر الإسلامي: الفصل بين “الإيمان“، باعتباره نشاطاً وممارسة ظاهرية قد تترجم عما بالقلب من إيمان… والشائع في كتب المقالات الإسلامية أن تيار الإرجاء في الفكر والتاريخ الإسلامي قد توزعته فرق عدة… منها الغيلانية : أتباع أبي مروان غيلان بن مروان الدمشقي). وبالرغم من أنه يقسم الإرجاء إلى قسمين ك الإرجاء الأموي، والإرجاء الثوري، ويعرف الإرجاء الأموي بأنه بدأ ببني أمية وأركان دولتهم وأنصارها واستهدف إبعاد شبح ” التكفير” والإدانة الدينية عن بني أمية الذين اغتصبوا السلطة وقلبوا نظام الحكم الإسلامي من (الشورى) إلى (الوراثة)، أما الإرجاء الثوري الذي كان فلسفة الانتفاض والتمرد على حكم بني أمية لاسيما بين أبناء الشعوب التي دخلت الإسلام حديثا الذين كان مطالبهم أن تعود (الشورى) فلسفة لنظام الحكم، وان يُعزل الولاة، وقادة الشرطة، وأن يشترك الناس في اختيار الولاة الذين يحكمون الأقاليم، وقد ذكر بين هؤلاء أحد قادة الانتفاضات ضد الأمويين، وهو الجهم بن صفوان، الذي يُعد من الآباء البارزين لعلم الكلام، لكنه لم يذكر غيلان الدمشقي، ولم ينسبه لأي من قسمي الإرجاء، رغم انه اعتمد على الأشعري في توصيف أحدى الفرق باسمه. لكن الملفت للانتباه عند (د. محمد عمارة) أنه يذكر (غيلان الدمشقي) عند حديثه عن (المعتزلة) فيكتب: ( كان اثنان من الموالي قد نشآ بالمدينة، وتعلما في بيت من بيوت آل البيت – بيت محمد ابن علي بن أبي طالب( المعروف بابن الحنفية) – (21-81 هج- 642-700م) وزاملا وتتلمذا على اثنين من بنيه وهذان هما: أبو مروان غيلان بن مسلم الدمشقي (الذي استشهد بعد سنة 106 هج) والذي تعلم على الحسن بن محمد بن الحنفية (100هج – 718 م) ثم ذهب إلى الشام فقاد تيار العدل والتوحيد هناك.. وأبو حذيفة واصل بن عطاء الغزال (80-131 هج- 699-748 م) الذي تعلم على أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية (99 هج- 717 م) ثم ذهب في سنة 101 هج إلى البصرة، حيث يقود الحسن البصري تيار العدل والتوحيد فيها)، وهنا نرى د. محمد عمارة ينسبه (غيلان بن مروان) ومرة (غيلان بن مسلم). ومرة هو بين (المرجئة) ومرة من آباء (الاعتزال). لكنه في موضع آخر من كتابه يكتب : ( صحيح أن فكر المعتزلة قد ولد في بيت عربي، هو بيت محمد بن الحنفية.. لكن الموالي كانوا من أبرز فرسان هذه الفرقة وأكثر أعلامها وعلمائها عطاء ونشاطا: فأبوا مروان غيلان بن مسلم الدمشقي..كان من موالي عثمان بن عفان..وهو من أصل مصري (قبطي)، ولذلك يُلقب أحيانا بغيلان القبطي…….).
ويذكر عنه (يوسف زيدان) في كتابه (اللاهوت العربي) بأن (غيلان الدمشقي كان يقيم في زقاق فقير بقرب أحد أبواب دمشق، اسمه: باب الفراديس. وأظنه كان محاطاً هناك، بمناخ مسيحي عتيد. وقد اشتهر غيلان بين جيرانه ومعاصريه، بصلاحه وتقواه وورعه. ويقال إنه، وفقاً لما ذكره ابن بطة العكبري: كان قبطياً، فأسلم. ويُلاحظ هنا وصفه بالقبطي تحديداً، لا النصراني أو المسيحي.
الغريب أن (أبا الفتح الشهرستاني) صاحب كتاب (المِلل والنِحل صححه وعلق عليه أحمد فهمي محمد – دار الكتب العلمية – ط8 – بيروت – 2009) يذكره في كتابه ناسبا إياه الى ثلاث فرق، الأولى: (الواصلية): (الواصلية أصحاب أبي حذيفة واصل بن عطاء الغزال، كان تلميذ الحسن البصري…. واعتزالهم يدور على أربع قواعد. القاعدة الأولى: القول بنفي صفات الباري تعالى، من العلم، والقدرة، والإرادة، والحياة. القاعدة الثانية: القول بالقدر وإنما سلك في ذلك مسلك معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، وقرر واصل بن عطاء هذه القاعدة أكثر ما كان يقرر قاعدة الصفات.)، الثانية: (الثوبانية) وهم حسب تعريفه أصحاب (أبي ثوبان المرجيء)، الذين زعموا أن الأيمان هو المعرفة والإقرار بالله تعالى وبرسله عليهم السلام، وبكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله، وما جاز في العقل تركه فليس من الإيمان، وأخر العمل كله مكن الإيمان. ومن القائلين بمقالته أبو مروان غيلان بن مروان الدمشقي)، ثم يذكره للمرة الثالثة عند الحديث عن فرقة (الصالحية) حيث يكتب: (أصحاب صالح بن عمرو الصالحي، ومحمد بن شبيب وأبو شمر، وغيلان، كلهم جمعوا بين القدر والإرجاء، ونحن وإن شرطنا أن نورد مذاهب المرجئة الخالصة، إلا انه بدا لنا في هؤلاء، لإنفرادهم عن المرجئة بأشياء…. وأما غيلان بن مروان من القدرية المرجئة، (فقد) زعم أن الإيمان هو المعرفة الثابتة بالله والمحبة والخضوع له والإقرار بما جاء به الرسول وبما جاء من عند الله والمعرفة الأولى فطرية ضرورية، فالمعرفة على أصله نوعان، فطرية، وهو علمه بأن للعالم صانعاً، ولنفسه خالقاً، وهذه المعرفة لا تسمى إيماناً، إنما الإيمان هو المعرفة الثابتة المكتسبة). بينما يعرّفه المحقق في الهامش معتمداً على كتب تراثية بأنه: ( غيلان، ذكره في التبصير أنه غيلان بن مسلم، وفي تهذيب التهذيب أنه غيلان بن أبي غيلان المقتول في القدر ضال مسكين وهو غيلان بن مسلم كان من بلغاء الكتاب، ومن أصحاب الحرث الكذاب وممن آمن بنبوته فلما قتل الحرث قام غيلان مقامه، وقد أخذ عن معبد الجهني البصري بدعة القدر، وقد ناظره الأوزاعي وأفتى بقتله. (لسان الميزان، وتهذيب التهذيب)).
غيلان الدمشقي وحرية الإرادة
ويذكر (د. عبد الرحمن بدوي) في كتابه (مذاهب الإسلاميين – دار العلم للملايين – ط3 – بيروت – 2008) : ( فلو رجعنا إلى صاحبنا واصل بن عطاء لم نجد في المصادر الباقية لدينا ما يدل على مدى تحقيقه لهذه المسألة وما أدلى به من براهين لإثبات حرية الإرادة. إنما تورد بعض المصادر أنه تلقى مذهب القدر، أعني حرية الإرادة، عن غيلان الدمشقي. فمن هو غيلان الدمشقي هذا؟ . اختلف فيه أصحاب كتب الكلام على طرفي نقيض: فالمعتزلة منهم مدحوه كثيرا، بينما ذمه أهل السنة ذماً بالغاً. فالمرتضى في ” المنية والأمل” يقول عنه – وهو يضعه على رأس الطبقة الرابعة من طبقات المعتزلة…أخذ المذهب عن الحسن بن محمد بن الحنفية… وروي أن الحسن كان يقول إذا رأى غيلان في الموسم : أترون هذا؟ هو حجة الله على أهل الشام، ولكن الفتى مقتول).
والواقع أن أهم مؤرخ تراثي يتعاطف مع (غيلان الدمشقي) هو (أحمد بن يحيى بن المرتضى المتوفى سنة 840 هج /1437 م) في كتابه (المنية والأمل في شرح كتاب المِلل والنِحل) أو كما نشره (سوسنة ديفلد فلزر في العام 1961 بعنوان (كتاب طبقات المعتزلة) حيث نجد معلومات لا بأس فيها عنه حيث يكتب : (وكان واحد دهره في العلم والزهد والدعاء إلى الله وتوحيده وعدله. وقتله هشام بن عبد الملك، وقتل صاحبه صالحاً. وسبب قتله أن غيلان لما كتب إلى عمر بن العزيز كتاباً قال فيه: ” أبصرت ياعمر وما كدتَ، ونظرت وما كدتَ. اعلم ياعمر أنك أدركت من الإسلام خـَلـَقـاً بالياً، ورسماً عافياً. فيا ميت بين الأموات! لا ترى أثراً فتتبع، ولا تسمع صوتاً فتنتفع. طُفىء أمرُ السنّة، وظهرت البدعة. أُخيف العالمُ فلا يتكلم، ولا يُعطى الجاهل فيسأل. وربما نجت الأمة بالإمام، وربما هلكت بالإمام، فانظر أي الإمامين أنت، فأنه تعالى يقول: “وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا” (الأنبياء :73) فهذا إمام هدى ومن اتبعه شريكان، وأما الآخر فقال تعالى:” وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويومَ القيامة لا يُنصرَون” (القصص: 41) ولن تجد داعياً يقول: تعالوا إلى النار – إذاً لا يتبعه أحد – ولكن الدعاة إلى النار هم الدعاة إلى معاصي الله. فهل وجدت ياعمر حكيماً يعيب ما يصنع، أو يصنع ما يعيب، أو يعذب على ما قضى، أو يقضي ما يعذب عليه؟ أم هل وجدت رشيداً يدعو إلى الهدى ثم يُضِل ُّ عنه؟ أم هل وجدت رحيماً يُكلّف العباد فوق الطاقة أو يعذبهم على الطاعة؟ أم هل وجدت عدلاً يحمل الناس على الظلم والتظالم؟ وهل وجدت صادقاً يحمل الناس على الكذب والتكاذب بينهم؟ كفى ببيان هذا بياناً، والعمى عنه عمىً – في كلام كثير). ويؤكد (بدوي) تعليقا على هذا النص بأن فيه تقرير لمذهب حرية الاختيار، وان الله لا يعمل إلا الأصلح، ولا يعذب على ما قضى ولا يقضي بما يعذب عليه، ومعنى هذا ان الله لا يقضي بالمعاصي، بل الإنسان هو الذي يرتكب المعصية بإرادته واختياره، وإلا فكيف يجوز في الحكمة أن يعذب الله على فعل فعله هو؟ والله حكيم، فلا يصنع ما هو مذموم، ورحيم فلا يكلف فوق الطاقة، وعادل فلا يحمل الناس على ارتكاب الظلم، وصادق فلا يحمل الناس على الكذب، وفي هذا بذور أولية لمذهب المعتزلة في العدل، وفي حرية الاختيار.
مقتل غيلان الدمشقي
اختلف المؤرخون التراثيون في مقتل (غيلان الدمشقي)، فصاحب كتاب (المنية والأمل) – (ابن المرتضى) الذي يتعاطف معه، والذي يبدو انه كان متحاملا على الأمويين، كتب عنه رواية بطولية يقول فيها : (دعا عمرُ غيلانَ وقال: أعنّي على ما أنا فيه، فقال غيلان: ولـّني بيع الخزائن ورد المظالم، فولاّه، فكان يبيعها وينادي عليها ويقول: تعالوا إلى متاع الخونة، تعالوا إلى متاع الظـَلـَمة، تعالوا إلى متاع من خـَلـَف الرسول في أمته بغير سنته وسيرته. وكان فيما نادى عليه جوارب خـز، فبلغ ثمنها ثلاثين ألف درهم، وقد أئتكل بعضها، فقال غيلان: من يعذرني ممن يزعم أن هؤلاء كانوا أئمة هدى وهذا يأتكل والناس يموتون من الجوع؟. فمر به هشام بن عبد الملك، قال : أرى هذا يعيبني ويعيب آبائي. والله إن ظفرتُ به لأقطّعن يديه ورجليه. فلما ولي هشام خرج غيلان وصاحبه صالح إلى أرمينية، فأرسل هشام في طلبهما. فجيء بهما فحبسهما أياماً، ثم أخرهما وقطع أيديهما وأرجلهما، وقال لغيلان: كيف ترى ما صنع بك ربُّك؟ فالتفت غيلان، فقال: لعن الله من فعل بي هذا. واستسقى صاحبُه، فقال بعضُ من حضر: لا نسقيكم حتى تشربوا من الزقوم. فقال غيلان لصالح: يزعم هؤلاء أنهم لا يسبقوننا حتى نشرب من الزقوم. ولعمري لئن كانوا صدقوا فان الذي نحن فيه يسيرُ في جنَب ما نصير إليه بعد ساعة من عذاب الله . ولئن كانوا كذبوا فان الذي نحن فيه يسبر في جنب ما نصير إليه بعد ساعةٍ من رَوْح الله. فاصبر يا صالح. ثم مات صالح، وصلى عليه غيلان، ثم أقبل على الناس وقال: قاتلهم الله، كم من حق أماتوه، وكم من باطل قد أحيوه، وكم من ذليل في دين الله أعزوّه، وكم من عزيز في دين الله أذلوه. فقيل لهشام: قطعتَ يدي غيلان ورجليه وأطلقت لسانه، إنه قد بكّى الناس، ونبههم على ما كانوا عنه غافلين. فأرسل إليه من قطع لسانه، فمات، رحمه الله تعالى). ومن الواضح هناك تخيل أو تصوير درامي لطريقة مقتله، لكن في جميع الأحوال أنه قتل بطريقة بشعة.
بيد أن (ابن الأثير) في (الكامل في التاريخ) و(الطبري) في (تاريخ الأمم والملوك) و(ابن كثير) في (البداية والنهاية) ، يروون طريقة مقتله بطريقة أخرى، حيث يتفقون بأنه أحضره بين يديه وحاججه من خلال ميمون بن مهران، فلما لم يستطع الإجابة أمر هشام بقتله، بقطع يديه ورجليه. لكن ليس المهم لدينا تفاصيل مقتله، المهم الثابت من خلال جميع الروايات أنه قتل بسبب أفكاره المعارضة للأيديولوجية السائدة، أيديولوجيا السلطة. كما أن جميع الروايات تتفق بأنه (غيلان الدمشقي) كان يقول بأن الله ليس هو خالق أفعال المعصية، بل الإنسان هو صانعها، وهو المسؤول عنها.
من رواد التنوير في العصر الأموي
بعض الباحثين المعاصرين يرون أن (الخوارج) وضعوا مفهوم (الإيمان) كقيمة محورية أساسية في الدين، وبذلك خلقوا أزمة عقائدية، ولم يكن الأمر بالنسبة لهم يستند على رؤى ومفاهيم لاهوتية بقدر ما كان مرتبطا بالواقع السياسي في زمنهم. فهل الإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر) كاف أم أن أنه لا بد ويقترن بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله؟. وكانت الإجابة على هذا السؤال تحدد الموقف السياسي من السلطة، بل وتضع صاحب الإجابة في مواجهة واضحة مع أو ضد، رغم انه ظهرت فرقة ثالثة تدعو إلى الإرجاء.ى وربما نظر بعض الباحثين إلى الإرجاء باعتباره تخاذلا وموقفا سلبيا، لكن البعض الآخر وجد فيه فرصة لطرح جميع الآراء، بعيدا عن تهديد السلطة الأموية.
وقد عرضنا فيما سبق بأن (غيلان الدمشقي) قد صنفه البعض من القدماء والمحدثين باعتباره (مرجئاً)، إلا أن (د.محمد عابد الجابري) في كتابه (نقد العقل العربي 4- العقل الأخلاقي العربي) يرى فيه رائداً من رواد التنوير القدماء، فهو يكتب عنه: (كان من جملة الذين لم يستسلموا لمنطق “إما… وإما” مَن يعتبر بحق أحد رواد الحركة التنويرية في العصر الأموي: غيلان الدمشقي. لقد كان يقف موقفاً معارضاً للأمويين والخوارج معاً، ملتمساً فهما للإيمان يحرره من أيديولوجيا الجبر وأيديولوجيا التكفير في وقت واحد. فقال إن الإيمان ليس خصلة واحدة بل هو اجتماع الخصال المكونة له، وهي المعرفة بالله معرفة صادرة عن تدبر و اقتناع، والخضوع له، والإقرار بالكتاب والسنة والخضوع لهما). وهكذا فهذا التعريف لا يشترط “العمل” كمقوم ضروري من مقومات الإيمان، كما يفعل الخوارج، لكنه من جهة أخرى يؤكد على القناعة الداخلية. أي أنه كان يحكم على أمور الدنيا من خلال الحكم على أمور الآخرة، أي ممارسة السياسة من خلال الدين.
بيد أن (يوسف زيدان) في كتابه (اللاهوت العربي) لا يبالغ في تقويم آراء (غيلان الدمشقي) لأن (كلام غيلان أو مذهبه العقائدي، يبدو لي كأنه حدس أول أو بداهة نظرية مستقاة من روح الديانة، ومن طبيعته الثقافة العربية السائدة في عصره. وقد يكون من الأصوب، أن يُوصف رأيه (مقولته) بأنه كان كلاماً ابتدائيا، وليس مذهبا كلامياً مكتملاً، أو نظرية مدعومة بأسانيد عقلية ونقلية كافية… ومع أن غيلان كان مشهودا له بصلاح الحال والتقوى، إلا ان ذلك لم يشفع له عند الحكام المسلمين والمؤرخين الإسلاميين. فقد وصفه ابن بطة العكبري، بأنه: كان جهمياً. ولم يتورع الإمامان، الآجري وابن عساكر، عن تريد عبارة الإمام (مكحول) القائلة بحسم : تَرَكَ غيلان هذه الأمة، في لُجج مثل لُجج البحار). بل أنه يذهب إلى أن كتاب ذلك الزمان وأئمة التدوين والمؤرخين والرواة وضعوا أحاديث عن النبي الأكرم يدين فيها مذهب غيلان القدري، بل هناك من مشايخ السلف من (وضع) حديثا نبويا يذكر غيلان بالاسم ويقرنه بالشيطان، يوقرن حديثه بالأسانيد حيث يذكر(ابن عساكر) ما يلي: (عن أبي الفضل بن محمد بن حرب، عن يعقوب الأنطاكي، عن الوليد بن مسلم، عن مروان بن سالم الجزري، عن الأحوص بن حكيم، عن خالد بن معدان، عن عبادة ابن الصامت، قال: قال رسول الله: يكون في أمتي رجل يقال له غيلان، هو أضر على أمتي من إبليس)!!!. هذا الحديث يرد في واحد من أمهات كتب التراث، ولمؤرخ لا تناقش رواياته تقريبا، وحاشى للرسول الأكرم أن يصدر منه مثل هذا القول، فلو افترضنا جدلا ضرر (غيلان) فكيف هو أضر على الأمة من إبليس، وإبليس هو إبليس، محرك الشر في تاريخ البشرية، والموسوس لمليارات المليارات من البشر وفي جميع الأديان، بينما هذا الرجل التقي صار أكثر ضررا منه على الإسلام، ألأنه وقف في وجه طغاة بني أمية!!. كيف لنا أن تعامل مع تراثنا ونحقق منه؟؟
ألم يكشف لنا الباحث الإسلامي العراقي (مرتضى العسكري) في كتاب له، عن وجود (مائة وخمسون صحابي مختلق)، أي لا وجود لهم وإنما هم من خلق الرواة كي يدعموا ويسندوا أحاديثهم الموضوعة حسب رغبة السلاطين والحكام، ليمنحوها شيئا من المصداقية. والثابت عن المؤرخين والباحثين المعاصرين أن (اختلاق الأحاديث النبوية) لدعم السلطة بدأ مع معاوية بن أبي سفيان لدعم حكمه الوراثي الجبري، وهذا ما يشير إليه (د. محمد عابد الجابري) في كتابه (نقد العقل العربي -3- العقل السياسي العربي – محدداته وتجلياته) حينما يكتب: (إن أيديولوجيا الجبر، هذه، التي كرسها معاوية تبريراً لسلطته، هي وحدها التي تفسر كثيراً من الأحاديث التي قال إنه رواها عن النبي… المهم هو أن يتخذ معاوية والخلفاء الأمويون من بعده هذه الأحاديث مبرراً لشرعية حكمهم باعتباره أنها أُخبرت به وبالتالي فهو قضاء وقدر).
وبصدد (غيلان الدمشقي) لم نجد من يقف إلى جانبه ويعيد الاعتبار له بتعاطف حار أكثر من (يوسف زيدان) في كتابه الآنف الذكر، بل هو يثير أسئلة مهمة حوله وحول حركة (الاعتزال) بعده حين يكتب: (لماذا كانت الوطأة على المعتزلة من جهة المعاصرين لهم واللاحقين بهم، أخف وألطف كثيرا مما لقيه غيلان الدمشقي، مع أن المعتزلة الذين كان لهم مؤيدون كثيرون، إنما استكملوا كلام غيلان وأكملوا مذهبه؟ هل لأن المعتزلة، مع أنهم توغلوا في الأمر بأكثر مما فعل غيلان، كانوا يحرصون على الكشف عن (إسلامية) الأصول التي قالوا بها، أعني الأصول الخمسة التي ميزت مذهب الاعتزال، بينما كان غيلان يستكمل طريق النصارى الذين علموه، ويبدأ من الواقع لا من النص؟ ولماذا يُشنع على غيلان، بان أستاذه (يعني معبد الجهني) تلقى عن أستاذ نصراني (سوسن) كان مسيحيا فأسلم ثم تنصر، بينما يُمتدح بعض رجال المعتزلة اللاحقين زمناً، بصفات (نصرانية) خالصة، فيقال مثلاً لأبي موسى المردار، تشريفا له، أنه: راهب المعتزلة؟).
الجعد بن درهم .. قربان الأضحى
والحقيقة تقال أن مصير (غيلان الدمشقي) وغيره من مفكري المرحلة الأموية يذكرنا بتكفيري زماننا هذا، فثالث (آباء) علم الكلام (الجعد بن درهم) ثم ذبحه يوم عيد الأضحى من قبل الحاكم وتحت المنبر. بل أن أسئلة (يوسف زيدان) عن مصير (غيلان) مقارنتها بما جاء به المعتزلة فيما بعد ينطبق أكثر على (الجعد بن درهم) ، فما جاء به صار أحد أهم محاور الجدل الفكري بين المعتزلة والأشاعرة فيما بعد، وبكثير من الإسهاب، بين تم ويتم تبجيل هؤلاء أما (الجعد) فقد نحروه تحت المنبر كما تنحر الشاة، فمن هو (الجعد بن درهم) هذا؟
(الجعد بن درهم) من التقاة والمفكرين الأحرار، فلقد كان شاميا، ودمشقيا بالتحديد، وكان مؤدِّبا لأبناء الخلفاء، وهو مؤدب الخليفة مروان بن محمد، آخر ملوك بني أمية، الذي سُمي (مروان لجعدي) نسبة لأستاذه .
وجريمة ( الجعد بن درهم) أنه مارس منهج التأويل، حيث أنه كان يؤكد بن (الله) منزه عن صفات الحدوث، وكان ينكر بعض الصفات الإلهية القديمة ولا يفهمها حرفيا، ومنها صفة (الكلام). بمعنى أنه يرفض فهم الصفات الواردة في القرآن كما نفهمها نحن البشر حرفيا، فمثلا القول بأن الله اتخذ إبراهيم خليلا، ,انه تعالى كلم موسى تكليما. والمشكلة هنا أن المؤرخين لم يتوسعوا في شرح معتقد (الجعد بن درهم) وإنما أوردوا الإشارات التي ذكرتها عنه، وعدو ذلك زندقة ومروقا على الدين لأنه فسر الآيات بطريقة أخرى.
وقد كتب عنه (ابن كثير) في كتابه (البداية والنهاية) عنه وبسلبية كاملة: ( هو أول من قال بخلق القرآن))، وبنفس النبرة يكتب عنه ( شمس الدين احمد بن عثمان الذهبي) في كتابه (سِيّر أعلام النُبلاء – ج5- دار الكتب العلمية – ط1 – بيروت- 2007) بأنه: ( مؤدب مروان الحمار. هو أول من ابتدع بأن الله ما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولا كلم َ موسى، وأن ذلك لا يجوز على الله. قال المدائني: كان زنديقاً. وقد قال له وهب: إني لأظنك من الهالكين، لو لم يُخبرنا الله أن له يداً، وأن له عيناً ما قلنا ذلك. ثم لم يلبث الجعدُ أن صُلب). كما قال عنه آخرون أشياء مشابهة ، وجميعهم يصبون اللعنة عليه مبتعدين عن الحياد الفكري والمهني الذي يجب أن يتصف به المؤرخين، ناسين أن يلعنوا الطغاة من الحكام الأمويين والعباسيين، إذا لم نقل بأنهم كانوا يدعون لهم بطول العمر والبقاء، وما كتبوه عن (الجعد بن درهم) لا يخرج عن الرواية التالية التي يتشابهون في سردها مع الاختلاف البسيط هنا أو هناك، وهي: إن الجعد قد أقام في دمشق حتى أظهر القول بخلق القرآن، وهي ستكون من أكبر مسائل الجدل بين المتكلمين والفقهاء لاسيما في عصر المأمون، ولهذا السبب طلبه بنو أمية، فهرب منهم، فسكن الكوفة، فلقيه الجهم بن صفوان، الذي يُعد الأب القريب والمباشر للمعتزلة. (ثم أن خالد بن عبد الله القسري قتل الجعد يوم عيد الأضحى بالكوفة وذلك أن خالداً خطب بالناس، فقال في في خطبته تلك: أيها الناس ! ضحـُّوا يقبل الله ضحاياكم، فأني مضُحٍ بالجعد بن درهم. إنه زعم ان الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه في أصل المنبر)، كما يروي (د. عبد الرحمن بدوي) في كتابه (مذاهب الإسلاميين).
والواقع أننا لو توقفنا عند هذه الشذرات التي وصلتنا عرضا من أفكار (الجعد بن درهم)، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها، سنجد أنها لبنات نظرية أولى، للتأمل الفكري المجرد، في القرآن، وهذه التأملات ليست ذات أبعاد سياسية مباشرة، فهو لا تناقش مسؤولية الإنسان عن أفعاله، وليس السيطرة على الحكم وسلبه والطغيان هو قضاء وقدر، وإنما يجب مواجهته، كما فيما وصلنا من معبد الجهني وغيلان الدمشقي، وربما ستتبلور هذه الأفكار الجنينية أكثر عن الجهم بن صفوان وواصل بن عطاء الغزال، ليعتمد عليها أبو الهذيل العلاف، إبراهيم النظام، الجبائيان محمد بن عبد الجبار وأبو هاشم، ثم القاضي عبد الجبار، في عقود لاحقة وليشقا نهر الاعتزال في الفكر العربي الإسلامي.
وربما الجعد بن درهم سيكون آخر (القدرية) الذين لا يصلنا عن آرائهم سوى شذرات قليلة، لأننا سنتعرف على توجهاتهم وأفكارهم أكثر من خلال معاصر له ألا وهو الجهم بن صفوان الذي سيترك أثرا واضحا على مفكري المعتزلة فيما بعد. لكن وهذا ما سخريات التاريخ أن يُطلق على معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، والجعد بن درهم، بل وحتى الجهم بن صفوان والمعتزلة لاحقا بالقدريين، ومذهبهم بالقدرية، وهي تسمية غير دقيقة وغير صحيحة، وعلى عكس ما يدعون إليه بالضبط، فهم لا يقولون بسلطة القدر على إرادة الإنسان، كما يُفهم من التسمية، بل على العكس، أنهم يجدون أن الإنسان هو المسئول عن أفعاله؟. ويرجح عدد من الباحثين ومنهم (حسين مروة) بأن خصومهم هم الذين ألصقوا بهم هذه التسمية، قصد تشويه سمعتهم. وكان أفضل تسمية أو لقب لهم هو (أهل العدل) من حيث أنهم لا يقرون بأن الله أجبر الشرير أو المذنب على أن يقوم بالمعصية، ثم يحاسبه عليها، فأن الله أعدل أمن أن يأمر بذلك. فالإنسان هو الذي يختار طريقه في الحياة، وهو حر في اختياره، وبذلك ناقش هؤلاء ولو بشكل جنيني فكرة الحرية والاختيار ومسؤولية الإنسان عن أفعاله.
د. بُرهان شــاوي