السهروردي عالم شاب قتله الفقهاء غيظا من علمه
يخلط البعض بين الصوفي القطب شهاب الدين يحيى السهروردي أبوالفتوح يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي ويلقب بـ”شهاب الدين”، الذي اشتهر بالشيخ المقتول وبين صوفيين آخرين هما: شهاب الدين أبوحفص عمر السهروردي، مؤلف كتاب «عوارف المعارف» في التصوف، وصاحب الطريقة السهروردية، أما الثالث فكان اسمه أبو النجيب.
نشأة السهروردي ورحلاته
ولد سنة 1155 في سهرورد في أذربيجان، والبعض يعتبره كرديا، في بلدته سهرورد تلقّى ثقافته الأولى الدينية والفلسفية والصوفية، ولم يكتف فقام برحلات علمية عديدة، وكان كلما حل ببلد يبحث عن العلماء والحكماء فيه فيأخذ عنهم ويصاحب الصوفية ويأخذ نفسه بما كانوا يمارسونه من مجاهدات ورياضات روحية.
غير أنه لم يكن بالطالب السهل، ولا بالطالب الذي يأخذ كل شيء، يقول السهروردي في كتابه “المطارحات”: “ها هو ذا قد بلغ سنّي تقريباً ثلاثين سنة وأكثر عمري في الأسفار والاستخبار والتفحص عن مطّلع على العلوم، ولم أجد من عنده خبر عن العلوم الشريفة، ولا من يؤمن بها”.
وقد سافر السهروردي، وهو صغير شرقاً إلى مَراغة وأصفهان وغرباً إلى بلاد الشام وتركيا، ومن أساتذته الأوائل في مراغة مجدالدين الجيلي أستاذ فخرالدين الرازي، وفي إصفهان التقى بتلامذة الفيلسوف الشهير ابن سينا.
وحين أتى إلى حلب وناظر فقهاءها لم يجاره أحد فطلبه الظاهر وعقد له مجلسا فغلب كل من ناظره فقربه الظاهر الأمر الذي أثار غيظ علماء حلب وحفيظتهم فشنعوا عليه.
الافتئات على أقطاب الصوفية
سوء فهم عميق وكبير لاحق المتصوفين في طول التاريخ الإسلامي وعرضه لا سيما ما يخص الأقطاب منهم، كان هناك اتهام أهل الحرف والتفسير الظاهري وأهل السلطان الديني والفقهاء للمتصوفة الحكماء، اختصر الاتهام بأن التصوف امتزج بفلسفاتٍ واتجاهات عقدية خطيرة، مثل القول بالحلول والاتحاد ودعوى العلم اللدني، ووقوعُ بعضهم ببعض بدع العقيدة، والشطح وخلاف ذلك، وكان الاتهام الأوضح والأكبر لأهل التصوف أنهم يخرجون على مذهب أهل السنّة، وقليل منهم من نجا من هذا الاتهام.
ولم تنته هذه الحرب بين فقهاء الدين ورجاله وبين المتصوفـة، بــين أهل الشرع وأهل القلـب، إلى اللحظـة، حـرب راح ضحيتها كبـار أقطاب التصوف والعلم، كان يقف أهـل السلطـة والسلطـان فيـها إلى جانب الفقهـاء وأهـل الشرع خـوفا من تأليبهم الشارع على السلطان بحجة التعاطف مع المتصوفـة الخارجـين عن الشرع، هكذا في كل مرة يأتي مـن يحـاول منـح حرية للعقل يبرز فقهاء السلاطين وعبّــاد الحرف وقاصري العلـم والعقل، فتنـدلع معـركـة بـين النـور والظـلمـة تنتهي بإطفاء أصحاب الشعلـة لكــن أنّـى لهؤلاء أن يطـفئــوا نـــور اللـه…
السهروردي كان من أهم مفكري المدرسة الإشراقية ولا يعني الإشراق عنده الذوق والكشف فقط وإنما استعمله السهروردي استعمالا خاصا فقد ذهب إلى أن “الله نور الأنوار” ومن نوره خرجت أنوار أخرى هي عماد العالمَين المادي و الروحي
اتهامات العلماء للسهروردي
يقول ابن خلكان إن السهروردي كان يتهم بالانحلال والتعطيل، فأفتى علماء حلب بقتله وأشدهم الزين والمجد ابنا جهبل. حتى أنهم لم يعتبروا كتبه من كتب الإسلام مثل كتاب “التلويحات اللوحية والعرشية”، وكتاب “اللمحة” وكتاب “هياكل النور”، وكتاب “المعارج والمطارحات”، وكتاب “حكمة الإشراق”.
معنى الإشراق بالنسبة إلى أصحابه
الإشراق يعني انبثاق النور، ومن خلال هذه الكلمة أراد أصحاب هذه المدرسة أن يبيّنوا المنهج الذي يعتمدون عليه، حيث يميّزهم عن المنهج المشّائي. يقول المحققون: إنّ سبب ذلك هو أنّ العلم نورٌ يُشرق في قلب العارف، فهم يعتقدون “أنّ مثل القلب مثل المرآة المجلوّة المصقولة، محاذياً للّوح المحفوظ وما عليه من العلوم والحقائق الإلهيّة، فكما لا يمكن أن يكون شيء محاذياً للمرآة المصقولة ولا يؤثر فيها، فكذلك لا يمكن أن يكون شيءٌ محاذياً للوح المحفوظ وهو لا يرى في المرآة القلبيّة الصافية”.
فهم يدّعون أنّهم بتطهير القلب من أدران الذنوب، وبصقل النفوس من الشذرات والصغائر الدنيويّة تشرق العلوم والمعارف في قلوبهم، فيطّلعون على حقائق الأشياء.
الإشراق السهروردي
الإشراقية قديمة تبدأ من الفيلسوف اليوناني أفلاطون الذي قال إن العالم ما هو إلا فيض عن العقل الأول (العقل الفعال). أما في صورتها الإسلامية، فإنها تعود إلى حكمة المشارقة أهل فارس، وهي تعني “الكشف”، وبعبارة أخرى الإشراقية الإسلامية تعني الوصول إلى المعرفة الحقيقية عن طريق الذوق والكشف، وليس عن طريق البحث والبرهان العقليين.
والذي يميّز هذه المدرسة عن غيرها من المدارس اعتمادها في تحصيل معارفها على عدة أمورٍ: الأول: العقل والاستدلال المنطقيّ والفلسفيّ. الثاني: الذوق الفطري وصفاء الباطن. الثالث: اعتمادها على ظواهر القرآن الكريم، والسنّة.
وعلى هذا تكون هذه الفلسفة قد مزجت بين العقل والشهود والقرآن والسنّة. الرابع: سعت هذه المدرسة لتقدّم رؤيةً كونيّةً، عن الوجود والكون والله والآخرة.
وبالنسبة إلى السهروردي الذي كان من أهم مفكري المدرسة الإشراقية لا يعني الإشراق الذوق والكشف فقط وإنما استعمله السهروردي استعمالاً خاصاً فقد ذهب إلى أن ” الله نور الأنوار” ومن نوره خرجت أنوار أخرى هي عماد العالمَين المادي و الروحي. وأضاف السهروردي: أن “النور الإبداعي الأول” فاض عن “الأول” الذي هو ” الله/نور الأنوار” وتصدر عن النور الإبداعي الأول أنوار طولية سماها “القواهر العالية” وتصدر عن هذه القواهر أنوار عرضية سماها “أرباب الأنواع ” تدير شؤون العالم الحسي، فابتدع السهروردي عالماً أوسط بين العالمين العقلي “نور الأنوار” والعالم المادي سماه “عالم البرزخ” و”عالم المُثل” وهو ما يذكّر بعالم المُثل عند أفلاطون.
يقول ابن خلكان إن السهروردي كان يتهم بالانحلال والتعطيل، فأفتى بعض علماء حلب حينها بقتله، حتى أنهم لم يعتبروا كتبه من كتب الإسلام مثل كتاب “التلويحات اللوحية والعرشية” وكتاب “اللمحة” وكتاب “هياكل النور” وكتاب “المعارج والمطارحات” وكتاب “حكمة الإشراق”
الصوفية وأهل الفلسفة
يرى الإشراقيون أن المعرفة لا تقوم على تجريد الصور، كما يقرر المشّاؤون أتباع فلسفة أرسطو، بل هي معرفة تقوم على الحدس الذي يربط الذات العارفة بالجواهر النورانية صعوداً كان أم نزولاً. يقول السهروردي “من يبحث عن الحقيقة من خلال البرهان كمن يبحث عن الشمس بواسطة المصباح”.
الحكيم الكامل
يقول هنري كوربان في مقدمته لحكمة الإشراق: “الحكيم الكامل عند السهروردي هو الحكيم المتأله، ذلك الذي عاش التأليه الداخلي السري، الذي يقابل ليس فقط عين اليقين وإنما حق اليقين” ويقول في مكان آخر من المقدمة “تناقش الفلسفة المفاهيم، أما الحكمة الذوقية فتغور في أسرار المرور من المرئي إلى اللامرئي، وإذا ما هي غارت فيها فلأن الحكيم المتأله هو نفسه مكان هذا المرور”.
نعم لقد استطاع السهروردي شهاب الدين الجمع بين العلم والذوق بين العقل والقلب، فكأنما جمع افلاطون مع هرمس.
يقول السهروردي:
قل لأصحابٍ رأوني ميّـتاً
فبكـوني إذ رأوني حـزَنا
لا تظنـّوني بأني ميّـتٌ
ليسَ ذا الميّـِتُ والله أنا
أنا عصفورٌ وهذا قفصي
طرتُ منهُ فـتخلّى رَهنًا
ومن أبدع ما للسهروردي من أفكار عرفانية قوله: “عندما أزال ترتيب العقل عنه، رفع عنه الكون والمكان، ناظرا لمقام الخلة، ظهر له العيان، فطوي له المكان” من رسالة “لغة موران”، وقوله عن الوجد: “اﻋﻠﻢ ﺃﻥ ﺍﻟﻮﺍﺟﺪ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﺴﺎﺑﻘﺔ ﻓﻘﺪ، فمن ﻟﻢ ﻳﻔﻘﺪ ﻟﻢ ﻳﺠﺪ”. وكتب: “المحبة من لوازم المعرفة، وإن كانت المعرفة قليلة، وكل معرفة توجب محبة وإن كانت قليلة، فإذا كملت النفس بها فذلك نور على نور، والمحبوب من يكون لنفسه فطنة وحدس قوي ينال دون تعب عظيم ما لا ينال غيره”.
سؤال يقتل شهاب الدين
بعد أن ازدادت أحقاد فقهاء حلب على شهاب الدين أقاموا له مكيدة فدعوا إلى مناظرة علنية في أحد جوامع حلب وسأله أحد فقهائها “هل يقدر الله أن يخلق نبيا آخر بعد محمد؟ فأجاب السهروردي: “الله لا حدّ لقدرته”.
كما يقول الأصفهاني في كتاب (البستان الجامع) فاجتهد الفقهاء أعداؤه وتأولوا في إجابته أن السهروردي يجيز خلق نبي بعد محمد، فشكوا “كفره وخروجه عن الدين وطالبوا بقتله” إلى ابن صلاح الدين الأيوبي فردّهم فرفعوا الأمر إلى والده فأرسل لولده رسالة تشير عليه بقتل السهروردي، وهذا ما كان.
يقـول المؤرخ ابـن تغـري بردي: “فكتب أهل حلب إلى السلطان صلاح الدين: أدرك ولدك وإلاّ تتلف عقيدته. فكتب إليه أبوه صلاح الدين بإبعاده، فلم يبعده، فكتب بمناظرته.
فناظره العلماء، فظهر عليهم بعبارته، فقالوا إنك قلت في بعض تصانيفك إن الله قادر على أن يخلق نبيّا وهذا مستحيل. فقال: ما وجه استحالته؟ فإن الله القادر هو الذي لا يمتنع عليه شيء.فتعصبوا عليه فحبسه الظاهر، وجرت بسببه خطوب وشناعات”.
لم تنته هذه الحرب بين فقهاء الدين ورجاله وبين المتصوفة، بين أهل الشرع وأهل القلب، إلى اللحظة، حرب راح ضحيتها كبار أقطاب التصوف والعلم، كان يقف أهل السلطة والسلطان فيها إلى جانب الفقهاء وأهل الشرع خوفا من تأليبهم الشارع على السلطان بحجة التعاطف مع المتصوفة الخارجين
وبالرغم من أن الباحث عزمي طه، من المؤيدين للتصوف، إلاّ أنه يقر باختلاف أفكار السهروردي وانحرافها، إذ يقول: “والحق أن هناك الكثير من الآراء التي أوردها السهروردي في كتبه المختلفة، بجانب صعوبة فهمها وغموضها، تنطوي على آراء مخالفة للعقيدة الإسلامية، وتقترب في مضمونها من فكرة وحدة الوجود، وتجعل ما أسماه (الحكيم المتألّه) في مرتبة الأنبياء أو أعلى درجة، وقد عدّ السهروردي نفسه “القطب” الذي تبغي له الرئاسة، وأنه المؤهل ليكون خليفة الله، الأمر الذي أدّى بعدد من الفقهاء إلى القول بتكفيره”.
وفي تفسيره لموافقة صلاح الــدين على الحكم الذي أصدره فقهاء حلب بــإعدام السهروردي الزنديق، يقول سبط ابن الجـوزي إن “صلاح الديــن كان مبغضاً لكتب الفلسفـة وأرباب المنطــق ومن يعانـد الشريعـة، أمـا المؤرخ بروكلمــان، فقــد أشــار في تاريخـه، إلى اعتقاد علماء حلب وفقهائها بارتبـاط السهروردي بأفكار القرامطة، تلـك الجمـاعة المعادية للدولة، والتي شنـت الحـــروب على المسلمـين وقادتهـم”.
خاتمة السهروردي
بسبب علمه وحجته البالغة التي غلبت كل فقهاء عصره قام هؤلاء فكتبوا محاضر بكفره وبعثوها إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي وخوفوه أن يفسد اعتقاد ولده فكتب إلى ولده يأمره بقتله حتما، وحينما قبض على السهروردي وأعلم بقرار قتله اختار لنفسه الموت جوعا في البريّة وقال البعض إنه مات سنة 1191 في قلعة حلب وهو ما يزال شاباً ابن ست وثلاثين سنة، لكن الكثيرين يحسبون أن علمه يبلغ أضعاف أضعاف عمره.
وعلى الرغم من تلك الخاتمة المفزعة بقيت كلمات السهروردي شهاب الدين وأفكاره تنير قلوب الملايين وتغنّى بأشعاره عشّاق الخمرة الإلهية طلّاب النقاء على مر العصور، فلنختم ببعض من أبيات شيخ الإشراق:
أبداً تحن إليكمُ الأرواحُ
ووصالكم ريحانها والراحُ
وقلوبُ أهل ودادكم تشتاقكم
وإلى لذيذ وصالكم ترتاحُ
يا صاح ليس على المحبّ ملامةٌ
إن لاح في أفق الوصال صباحُ
لا ذنب للعشاق إن غلب الهوى
كتمانهم فنما الغرام فباحوا
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم
وكذا دماء البائحين تباحُ.
” كاتب غير معروف ” عن جريدة العرب