شهداء الكلمة ومن الشعر ما قتل
إذا كان “من الحب ما قتل”؛ التي تعود قصتها إلى الشاعر العربي عبد المالك الأصمعي؛ ويحكي وقائعها قائلا “بينما كنت أسير في البادية، إذ مررت بحجر مكتوب عليه هذا البيت: “أيا معشر العشاق بالله خبروا/ إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع”. فكتبت تحته البيت التالي: “يداري هواه ثم يكتم سره/ ويخشع في كل الأمور ويخضع”. يقول ثم عدت في اليوم التالي، فوجدت مكتوبا تحته هذا البيت: “وكيف يداري والهوى قاتل الفتى/ وفي كل يوم قلبه يتقطع”. فكتبت تحته البيت التالي: “إذا لم يجد الفتى صبرا لكتمان سره/ فليس له شيء سوى الموت ينفع”. يقول الأصمعي: فعدت في اليوم الثالث، فوجدت شابا ملقى تحت الحجر ميتا، ومكتوب تحته هذا البيت: “سمعنا أطعنا ثم متنا فبلغوا/ سلامي إلى من كان بالوصل يمنع””.
فإن من القول ما قتل أيضا، فما أكثر الشعراء الذين لقو حتفهم بحد ألسنتهم على امتداد التاريخ العربي. كان الشعر قديما سلاحا ذا حدين في أيدي أصحابه؛ فأداة يتهددون بها أعداءهم باعتماد أسلوب الهجاء. ووسيلة لاكتساب المال وحصد العطايا بالمدح من الخلفاء والسلاطين.
وقد يحدث أن ينقلب الأمر، فتكون نتائجه عكسية، فيلقي بالشاعر في هاوية الهلاك، حين يكون خصومه من أولي البأس وذوي السلطان. وعن ذلك قال أحدهم: “كم في المقابر من قتيل لسانه/ كانت تهاب لقاءه الشجعان”.
ما أكثر أسماء الشعراء الذين تسبب شعرهم في مصرعهم، لأسباب تراوح ما بين الهجاء والمخاصمة أو الغزل والتشبيب بالنساء أو الفخر. وليس من المبالغة في شيء القول إن ضحايا الشعر تضاهي – أو ربما تفوق – شهداء الحب. وقد يتفاجأ كثيرون من هذه النهائية المأساوية لبعض فحول الشعر العربي عبر العصور.
من هؤلاء طرفة بن العبد البكري صاحب معلقة “لخولة أطلال ببرقة ثهمد”، الملقب بالغلام القتيل صاحب الحكاية الأسطورية الخالدة برفقة خاله المتلمس مع الملك عمرو بن هند. وقد قالت أخته في رثائه “عددنا له ستا وعشرين حجة/ فلما توفاها استوى سيدا ضخما، فُجعنا به لما رجونا إيابه/ على خير حال لا وليدا ولا قحما”.
وأبو بكر بن عمار الأندلسي الملقب بذي الوزارتين، الذي قتله المعتمد بن عباد بسبب قصيدة أغلظ فيها القول فيه وفي زوجته، استهلها ببيت يقول فيه: “ألا حي بالغرب حيا حلالا/ أناخوا جمالا وحازوا جمالا”، وختمها بقوله: “سأكشف عرضك شيئا فشيئا/ وأهتك سترك حالا فحالا”. وزاد الأمر حدة حين ذمه ووالده المعتضد في أبيات منها: “ومما يقبح عندي ذكر أندلس/ ذكر معتضد فيها ومعتمد، ألقاب مملكة في غير موضعها/ كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد”.
وسالم بن مُسافع بن دَارَة الشاعر المشهور الذي قتله – في عهد عثمان بن عفان – زُمَيْل بن أُم دينار الفَزَاري، لأن سالمًا كان قد هجاه بقوله المشهور: “لا تَأمنَن فزَارِيًّا خلوْت به/ على قلُوصِك وَاكتُبها بأَسْيار”.
وقيس بن الخطيم الأوسي؛ المتوفى سنتين قبل الهجرة، يعتبر من الفرسان في الحرب (قتل قاتل أبيه وجده) والشعر، وكانت له مساجلات مع شاعر الخزرج حسان بن ثابت، ضمنها قصيدة “أتعرف رسما كاطراد المذاهب”، وقد كانت أحد أسباب اغتيال الخزرج له، التي نختار منها قوله: “دعوت بني عَوف لحقن دِمائهم/ فلما أَبوا سامحت في حرب حاطِب، وكنت اِمرأً لا أَبعث الحربَ ظالِما/ فلما أَبَوا أَشعلتُها كل جانب، أَربتُ بدفع الحرب حتى رأَيتها، عن الدفع لا تزداد غير تَقارب، فإِذ لم يَكن عن غاية الموت مَدفَع/ فأَهلا بها إذ لم تزل في المَراحب، فلما رأَيت الحرب حربا تجرَّدت/ لبِست مع البُردين ثوب المحارِبِ، أَوَيت لعَوفٍ إذ تقول نِساؤهم/ ويرمينَ دفعا ليتَنا لم نُحارب”.
حتى أبو الطيب المتنبي معروف بخوضه الفيافي والبيداء، كانت نهايته بسبب شعره على يد رجل نكرة، ما كان ليذكر أحد اسمه بعد مدة من وفاته، لولا اقترانه بألمع الشعراء العرب عبر العصور، ليخلد في كتب التاريخ والأدب.
والحكاية وما فيها أن قاطع طريق يدعى ضبة بن يزيد، كان غدارا هجاء شديد البأس على أهل العراق، لأن أحدهم قتل أباه. وكان أن اجتاز أبو الطيب المتنبي مدينة الكوفة، فألح عليه بعض أشراف القوم بهجاء ضبة بمثل ألفاظه القبيحة وأفعاله الشنيعة. ففعل المتنبي ذلك على مضض وهو على ظهر فرسه، حتى إن بعض المحققين قالوا إن الشاعر تنكر لهذه القصيدة فيما بعد، لأنه أنشدها على كراهة.
ويحق لأبي الطيب أن يتنكر لها، إذ لا موقع لها ضمن إرث المتنبي الشعري، لأنها قصيدة ينبؤ بها السمع، لما تضمنته من ألفاظ بذيئة نختار منها ألطف الأبيات: “ما أنصف القومُ ضبّة/ وأمه الطرطبّة، وما عليك من القتل/ إنما هي ضربة، و ما عليك من الغدر/ إنما هو سبة، وما يشق على الكلب/ أن يكون ابن كلبة، يا أطيب الناس نفسا/ وألين الناس ركبا، وأخبث الناس أصلا/ في أخبث الأرض تربة، وإن عرفت مرادي/ تكشفت عنك كربا، وإن جهلت مرادي/ فإنه بك أشبه”.
لم يمض أقل من حول على إنشاد هذه القصيدة التي تدعو إلى الثأر، حتى تربص فاتك بن أبي جهل الأسدي؛ خال ضبة، بالمتنبي في نحو 30 فارسا في الطريق من رفاقه قطاع الطرق بين واسط “الكوت حاليا” وبغداد، وكان المتنبي حينها في الخمسين من عمره.
شعراء آخرون قتلتهم ألسنتهم مثل إمام الشعراء المولدين بشار بن برد، والسليك بن عمير السعدي التميمي من شعراء الصعاليك، وأعشى همدان، وشاعر الأمثال هدبة بن الخشرم، وكعب بن معدان الأشقري، وعبيد بن الأبرص صاحب معلقة “أقفر منا أهله ملحوب”، والكميت بن زيد الأسدي المشهور بديوان الهاشميات، وأبو نخيلة الراجز، وابن الرومي، وسحيم عبد بن الحسحاس الشاعر العبد الذي قتله سيده بسبب شعره.
تجود الخزانة العربية بعشرات المؤلفات ومئات الدراسات لمحققين ونقاد عن شعراء لقوا حتفهم في سبيل حبهم “شهداء العشق”، لكن قلة من هؤلاء الباحثين من اهتم حقا بشهداء القول والكلمة، ممن يحفل التاريخ العربي بتجارب لهم على امتداد حقبه المختلفة؛ ما قبل الإسلام، حقبة الخلفاء، الدولة الأموية، الدولة العباسية… تجارب تحمل في طياتها كثيرا من المعاني والعبر والدروس، ربما أكثر مما في تجارب “قتلى الحب”.
* محمد طيفوري من الرباط – جريدة الاقتصادية