شهداء الكلمة الحرّة
كتبت رولا عبدالله في صحيفة “المستقبل”:
تخبر الدماء المسفوكة من ساحة المرجة الى حماه إلى حلب إلى ساحة الحرية إلى كل بقعة تحتضن شهيدا، عن سادس من أيار يزهر في كل عام حكايا شهداء آثروا العبور إلى الوطن، وإن على مذبح الشهادة وبأثمان موجعة.
ولأنه في البدء كانت الكلمة، تلاها ألف سبب لإخماد شعلة حاملها، بالتهديد والوعيد والتنكيل والتصفيات، وبالبارود والنار والرصاص والاغتيالات الجسدية والمعنوية، لكنّها في كل مرة كانت الكلمة تنتصر وتزهر تجارب حياة في مواجهة أدوات الموت، بدءاً من الأخوين الشهيدين محمد ومحمود المحمصاني وعبدالكريم الخليل وعبدالقادر الخرسا الذين أعدموا في العام 1915، وكانت آخر كلماتهم: «عسانا نكون من محرري بلاد العرب»، ومن ثم لحق بهم ثلة من الصحافيين هم: بترو باولي، جرجي الحداد، سعيد فاضل عقل، عمر حمد، عبدالغني العريسي، الأمير عارف الشهابي، أحمد طبارة، توفيق البساط، فيليب وفريد الخازن، وفي الطريق الى الموت غنّوا للحياة: «مرحباً بأرجوحة الشرف، مرحباً بأرجوحة الأبطال، مرحباً بالموت في سبيل الوطن»، وفي الوصية سجلوا: «مجد الأمم لا يبنى على جماجم الأبطال، فلتكن جماجمنا حجر الزاوية في بناء مجد الأمة».
لكنّ الموت لم يرهب الأقلام الحرة، ولا حتى نجح في كم أفواه الصحافيين الذين ظلوا مستهدفين بعمليات اغتيال طالت بالرصاص نقيب المحررين السابق نسيب المتني في السابع من أيار من العام 1958، ومن بعده اختطف الصحافي فؤاد حداد الملقب بـ«أبو الحن» وقتل على أيدي مجهولين. وفي 16 أيار من العام 1966 إغتيل الصحافي كامل مروة وسقط مضرجا بدمائه خلف مكتبه في دار الحياة. وبعد عشر سنوات اغتيل رئيس تحرير «لوريان لو جور» إدوار صعب في 16 أيار من العام 1976 برصاص قناص بينما كان متوجها الى مكتبه في الحمرا، إنما ليكمل ما كتبه:» لا أحلم سوى بدولة حديثة. وهذا لحلم هائل في ذاته. دولة تكف عن التفكير بالصغائر. في اختصار، دولة تعيش بدل ان تكافح لتبقى على قيد الحياة«.
وفي أدوات الموت يسجل التاريخ كيف أحرقت يد الصحافي سليم اللوزي بالأسيد قبل أن يطلق النار على رأسه ويلقى في أحراج بلدة عرمون في الرابع من آذار من العام 1980، وكل ذنبه أنه كتب:» اذا كانت الغربة قد فرضت على الصحافة الانفصال عن الوطن، فإنها يجب الا تفرض عليها الانفصال عن حرية الوطن«. وفي تموز من العام نفسه اخترقت 6 رصاصات من النوع المتفجر جسد نقيب الصحافة رياض طه، هو الذي توقع اغتياله مخاطبا قتلته: «ليتك تقرأ لتدري أن المصارعين من رجال الأفكار والمبادئ لا يوهن عزائمهم إرهاب أو اضطهاد ولا يخيفهم سلاح، لأنهم لا يخشون الموت. ولكنك لا تقرأ ولا تدري. وإذا قتلتَ رياض طه، فإن قتله سيخلده وستنبعث من دمه نار تلتهمك أنت وذريتك. حقاً إنني لا أحقد عليك بقدر ما أرثي لك«.
ومن بعده سقط رئيس تحرير النداء سهيل طويلة بالرصاص. وبعد أن رثاه رفيقه الصحافي حسين مروة، اغتيل الأخير بالطريقة نفسها في 24 شباط من العام 1987.
وكرّت سبحة الاغتيالات لتقطف في العام 2005، إحدى زهرات «ربيع بيروت»، الصحافي والكاتب سمير قصير الذي حوكم لأنه أشهر ذات يوم حلمه على النحو الآتي: «بلادٌ تنهل من اختلافاتها لتحولها مصدر قوة وتماسك. بلاد متحررة من قيود الأنانيات الطائفية والعائلية. بلاد محصّنة بقضاء مستقل، وبتمثيل شعبي ومجتمع لا تقيّد حركته ولاءات مفروضة، ولا يحرس انقساماته عسس المخابرات، مجتمع يضمن تكافؤ الفرص وثقافة تنحاز لتحرر فلسطين ولا تخشى حرية سوريا ولا العراق«.
وعلى غرار هذا الحلم نادى مدير «دار النهار»، ففجر الحقد جسده في 12 كانون الأول من العام الذي شهد ولادة ثورة الأرز. غاب جبران وبقي قسمه وكلمات تشبه الوصية: «ان وحدة اللبنانيين اقوى من اي وصاية، ومن اي سلاح، ومن اي ارهاب واحتلال«.
ولن تتوقف قافلة شهداء الكلمة الحرة عند تاريخ السادس من أيار من العام 2016، طالما في البلد من ينادي بالولاء للوطن، وفيه من ينادي بغير الولاء له